فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالمراد المبالغة في الإيقاع بهم لأنهم إذا ضربوا ضربة تفرقوا فيها على غير وجه ولا انتظام علم من شردوا إليه ممن وراءهم أنه قد تناهى بهم الذعر فذعر هو فوقع في الشرود قوة أو فعلًا، فعلى قراءة من جعل من حرف جر يكون المفعول محذوفًا، والتقدير: أوقع- بما تفعل بهؤلاء من الأمور الهائلة- التشريدَ في المكان الذي خلفهم بشرود من فيه قوة أو فعلًا بما سمعوا أو رأوا من حال هؤلاء حين واجهوك للقتال، وعلى قراءة من جعلها اسمًا موصولًا تكون هي المفعول، فالمعنى: شرد الذين خلفهم من أماكنهم إما بالفعل أو بالقوة بأن تفترق قلوبهم بما تفعل بهولاء فتصير- بما ترى من قبيح حالهم- قابلة للشرود، ويكون اختلاف المعنى بالتبعيض في جعل من حرف جر والتعميم في جعلها موصولًا بالنظر إلى القوة أو الفعل.
ولما ذكر الحكم، ذكر ثمرته بأداة الترجي إدارة له على الرجاء فقال: {لعلهم} أي المشردين والمشرد بهم {يذكرون} ما سبق من أيام الله فيعلموا أن هذه أفعاله، وهؤلاء رجاله، فينفعهم ذلك فلا ينقضوا عهدًا بعده ولقد فعل بهم صلى الله عليه وسلم ذلك فإنهم إن كانوا بني قريظة فقد ضربهم صلى الله عليه وسلم ضربة لم يفلت منهم مخبر، بل ضرب أعناقهم في حفائر في سوق المدينة وكانوا نحو سبعمائة على دم واحد.
إلا من أسلم منهم وهم يسير، وسبى ذراريهم ونساءهم وغنم أموالهم، وإن كانوا قينقاع فقد نزل بساحتهم بعد نقضهم وإظهارهم غاية الاستخفاف والعناد فلم يكبتهم الله أن جعلهم في قبضته وما بقي إلا ضرب أعناقهم كما وقع لبني قريظة فسأله فيهم عبد الله بن أبي المنافق وألح عليه صلى الله عليه وسلم في أمرهم وكان يألفه ويتألف به فتركهم له صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، وكانت واقعتهم أول وقائع اليهود بالمدينة، وإن كانوا بني النضير فقد نقضوا أيضًا فأحاط بهم، ومنّاهم المنافقون الغرور فقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوه صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ففعل، ثم أتم الله له الأمر فيهم في خيبر ووادي القرى وغيرهما إلى أن لم يدع منهم في جزيرة العرب فريقًا إلا ضربه بالذل وأجرى عليه الهوان والصغار، ووقائعه فيهم مشهورة الخبر معروفة في السير. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة.
منها قوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] ومنها قوله: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الامر} [آل عمران: 159] وتارة يرشد إلى التغليظ والتشديد كما في هذه الآية، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة، بين ما يجب أن يعاملوا به فقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الحرب} قال الليث: ثقفنا فلانًا في موضع كذا، أي أخذناه وظفرنا به، والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب.
يقال: شرد يشرد شرودًا، وشرده تشريدًا، فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلًا يفرق بهم من خلفهم.
قال عطاء: تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم، وقيل: نكل بهم تنكيلًا يشرد غيرهم من ناقضي العهد {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد، وقرأ ابن مسعود فشرذ بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب شذر، وقرأ أبو حيوة من خلفهم، والمعنى: فشرد تشريدًا متلبسًا بهم من خلفهم لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني، فالكاسرون يعدون خلف المكسرين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشردهم في ذلك الوقت. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الحرب}
يقول: إن تظفر بهم في الحرب، يعني في القتال، ويقال: إن أدركتهم في القتال، {فَشَرّدْ بِهِم}؛ يقول نكّل بهم في العقوبة {مّنْ خَلْفِهِمْ}، يعني ليتَّعِظْ بهم من بعدهم الذين بينك وبينهم عهد، ويقال: افعل بهم فعلًا من العقوبة والتنكيل يفرق به من وراءهم من أعدائك.
وقال أبو عبيدة: فشرد بهم إنها لغة لقريش، سمع بهم، أي خوِّف.
والتشريد في كلامهم، التشريد والتفريق.
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، يعني النكال فلا ينقضون العهد. اهـ.

.قال الثعلبي:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} ترينّهم وتجدنّهم {فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} قال ابن عباس: فنكّل بهم من ورائهم، وقال قتادة: عِظ بهم مَنْ سواهم من الناس، وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم مَنْ خلفهم، وقال ابن زيد: أخفهم بهم.
وقيل: فرَّق جمع كل ناقض مما بلغ من هؤلاء، وقال عطاء: أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن، وقال ابن كيسان: اقتلهم فلا من يهرب عنك مَن بعدهم.
وقال القتيبي: سمِّع بهم، وأنشد:
أُطوّف في الاباطح كل يوم ** مخافة أن يشردّ بي حكيمُ

وأصل التشريد: التطريد والتفريق والتبديد، وقرأ أبن مسعود (وشرّذ) بالذال معجم وهو واحد.
قال قطرب التشريذ بالذال التنكيل، وبالدال للتفريق من خلفهم أي من ورائهم، وقيل من يأتي خلفهم، وقرأ الأعمش مِن (خلفِهم) بكسر الميم والفاء تقديره: فشرِّد بهم من خلفهم من عمل قبل عملهم: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يعتبرون العهد فلا ينقضون العهد. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ}
فيه وجهان:
أحدهما: تصادفهم.
والثاني: تظفر بهم.
{فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنذر بهم من خلفهم، قال الشاعر من هذيل:
أطوِّف في الأباطح كلَّ يوم ** مخافة أن يشرِّد بي حكيم

. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
دخلت النون مع إما تأكيدًا ولتفرق بينها وبين إما التي هي حرف انفصال في قولك جاءني إما زيد وإما عمرو {وتثقفهم} معناه وتحصلهم في ثقافك أو تلقاهم بحال ضعف تقدر عليهم فيها وتغلبهم، وهذا لازم من اللفظ لقوله: {في الحرب}، وقيل ثقف أخذ بسرعة ومن ذلك قولهم: رجل ثقف لقف، وقال بعض الناس معناه تصادفنهم إلى نحو هذا من الأقوال التي لا ترتبط في المعنى، وذلك أن المصادف يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب، والثقاف في اللغة ما تشد به القناة ونحوها، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إن قناتي لنبع ما يؤيسها ** عض الثقاف ولا دهن ولا نار

وقال آخر: [البسيط]
تدعو قعينًا وقد عضّ الحديد بها ** عض الثقاف على صم الأنابيب

وقوله: {فشرد} معناه طرد وخوف وأبعده عن مثل فعلهم، والشريد المبعد عن وطن أو نحوه، والمعنى بفعل تفعله بهم من قتل أو نحوه يكون تخويفًا لمن خلفهم أي لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به، وسواء كان معاصرًا لهم أم لا، وما تقدم الشيء فهو بين يديه وما تأخر عنه فهو خلفه، فمعنى الآية فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريدًا لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم، والضمير في {لعلهم} عائد على الفرقة المشردة، وقال ابن عباس: المعنى نكل بهم من خلفهم، وقالت فرقة شرد بهم معناه سمع بهم، حكاه الزهراوي عن أبي عبيدة، والمعنى متقارب لأن التسميع بهم في ضمن ما فسرناه أولًا، وفي مصحف عبد الله فشرذ بالذال منقوطة، وهي قراءة الأعمش ولم يحفظ شرذ في لغة العرب ولا وجه لها إلا أن تكون الذال المنقوطة تبدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخراذيل، وقرأ أبو حيوة وحكاها المهدوي عن الأعمش بخلاف عنه: {مِن خلفهم} بكسر الميم من قوله: {من} وخفض الفاء من قوله: {خلفهم} والترجي في قوله: {لعلهم} بحسب البشر، و{يذكرون} معناه يتعظون. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ}
قال أبو عبيدة مجازه: فإن تثقفنَّهم.
فعلى قوله، تكون {ما} زائدة.
وقد سبق بيان {فاما} في [البقرة: 38].
قال ابن قتيبة: فمعنى {تثقفنهم} تظفر بهم {فشرِدّ بهم مَنْ خلفهم} أي: افعل بهم فعلًا من العقوبة والتنكيل يتفرَّق به من وراءهم من أعدائك.
قال: ويقال شرد بهم أي: سمِّع بهم، بلغة قريش.
قال الشاعر:
أُطوِّف في الأباطح كُلَّ يوم ** مَخَافَةَ أن يُشرِّد بي حَكيمُ

وقال ابن عباس: نَكِّل بهم تنكيلًا يشرد غيرهم من ناقضي العهد، لعلهم يذكرون النكال فلا ينقضون العهد. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}
شرطٌ وجوابه.
ودخلت النون توكيدًا لما دخلت ما؛ هذا قول البصريين.
وقال الكوفيون: تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع {إمّا} في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير.
ومعنى {تَثْقَفَنَّهُمْ} تأسرهم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقاهم بحال ضعف، تقدر عليهم فيها وتغلبهم.
وهذا لازم من اللفظ؛ لقوله: {فِي الْحَرْبِ}.
وقال بعض الناس: تصادفنهم وتلقاهم يقال: ثَقِفته أثقفه ثَقْفًا، أي وجدته.
وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاوله ويطلبه.
وثَقْف لَقْف.
وامرأة ثَقَاف.
والقول الأوّل أولى؛ لارتباطه بالآية كما بيّنا.
والمصادف قد يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب.
والثقاف في اللغة: ما يُشدّ به القناة ونحوها.
ومنه قول النابغة:
تدعو قُعَينا وقد عَضّ الحديد بها ** عَضّ الثِّقاف على صُمّ الأنابيبِ

{فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} قال سعيد بن جُبير: المعنى أنذر بهم من خلفهم.
قال أبو عبيد: هي لغة قريش: شردّ بهم سمِّع بهم.
وقال الضحّاك: نَكِّل بهم.
الزجاج: افعل بهم فعلًا من القتل تفرّق به من خلفهم.
والتشريد في اللغة: التبديد والتفريق؛ يقال: شردّت بني فلان قلّعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها.
وكذلك الواحد، تقول: تركته شريدًا عن وطنه وأهله.
قال الشاعر من هُذيل:
أُطَوِّف في الأباطح كل يوم ** مخافة أن يشرد بي حكيم

ومنه شَرَد البعير والدابة إذا فارق صاحبه.
و{مَن} بمعنى الذي، قاله الكسائيّ.
وروي عن ابن مسعود {فشرذ} بالذال المعجمة، وهما لغتان.
وقال قُطْرُب: التشريذ (بالذال المعجمة) التنكيل.
وبالدال المهملة التفريق؛ حكاه الثعلبيّ.
وقال المَهْدَوِيّ: الذال لا وجه لها، إلا أن تكون بدلًا من الدال المهملة لتقاربهما، ولا يعرف في اللغة {فشرذ}.
وقرئ {مِن خلفهم} بكسر الميم والفاء.
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون} أي يتذكرون بوعدك إياهم.
وقيل: هذا يرجع إلى من خلفهم، لأن من قتل لا يتذكر أي شرد بهم مِنَ خلفهم مَن عمل بمثل عملهم. اهـ.